الإسلاميون... ومغامرة المتغيّرات العربيّة
هل هناك فعلاً «مؤامرة إسلامية» على الديمقراطية العربية والحريات العامة وحق الاختيار والمفاضلة؟ منشأ السؤال جاء رداً على نمو مخاوف من مصادرة القوى الإسلامية للنتائج أو الأحلام التي تأسست بناءً على معطيات نهوض «الربيع العربي» وحيثياته.
قبل فترة ليست بالطويلة لم تدرج الانتفاضات والاحتجاجات العربية في الحسابات الجارية أو القريبة العاجلة. الاحتمال كان وارداً، لكنّه كان يوضع دائماً في الحسابات المؤجّلة عند دول القرار في اعتبار أنّ موضوع السكون العربي أصبح من الثوابت مقارنةً مع حالات التغيير التي شهدتها أوروبا الشرقية والكثير من البلدان في تسعينيات القرن الماضي. آنذاك انهار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي ودمر العراق في العام 1991 (أزمة الكويت) ولم يتحرك الشارع العربي احتجاجاً.
حتى احتلال العراق في العام 2003 لم يتحرّك بسببه الساكن العربي، ما عزّز الانطباع بوجود نوع من التراخي السياسي الذي لا يستنفر حتى حين تصل آلة الحرب إلى عقر الدار. وأشار السكون العربي، المحكوم بالفزّاعة السلطوية، إلى وجود حالات انكفاء على الذات موصولةً بالخوف الذي يدفع بالفرد إلى اللجوء إلى شبكة جماعته الأهلية والاحتماء بمظلّتها التقليدية والمتوارثة. وأكّدت ظاهرة الخوف نمو ما يمكن تسميته عدم الاستعداد للتضحية والقبول بالأمر الواقع.
هذا المشهد المتتابع زمنياً منذ نحو نصف قرن، تداعى فجأةً وانهار كأحجار الدومينو من المحيط إلى الخليج، مطيحاً بكل تلك القراءات التي تعاملت مع الواقع العربي انطلاقاً من نظريات تآمرية ترى التغيير مسألة لا صلة لها بآليات الداخل، وإنما مجرّد قرارات خارجية تتخذها العواصم الدولية والإقليمية. وبما أنّ الخارج يمتلك مفاتيح الداخل (السلطات العربية) كما تذهب نظريات «المؤامرة»، كانت القراءات تؤشر إلى استمرار السكون وغياب التفكّر بالمستقبل. وحين هبّت المنطقة وحصل التغيير على مستوى منظومة رأس السّلطة ظهرت على السّاحة تشنّجات غير متوقعة ترافقت مع تداعيات التحوّل ما دفع بعض القوى إلى التشكيك بجدوى الانتفاضات ونتائجها السّياسية.
يفتح الانهيار السريع لمنظومة الدول العربية - وتحديداً تلك التي شهدت ذلك الاستقرار النسبي على مدى أربعة عقود - الباب لإعادة النظر في مقولات ايديولوجية معاصرة تعاملت مع الواقع العربي المتأخر بذهنية «حداثية» في مرحلة لا تزال المجتمعات تمر في فترة ما قبل تشكل الدولة الحديثة. فالقراءة المتسرّعة كانت غير دقيقة لترسيم صورة مجتمعات تأسست سياسياً على منظومة علاقات الملل والنحل، ولم تنجح في التطور نحو دولة دستورية قادرة على الدمج أو إعادة إنتاج هيكل قانوني يرتب هيئة الجماعات الأهلية في إطار اجتماعي معاصر.
بسبب هذه القراءة «الحداثية» القاصرة، التي اعتمدتها بعض القوى الإيديولوجيّة، تشكلت رؤية سياسية متوهمة لتركيبة اجتماعية غير موجودة في الواقع. فالدولة العربية في صيغها المختلفة عموماً كانت أقرب إلى السلطة المؤقتة التي تعتمد في منظوماتها على علاقات القرابة والمصاهرة أو العصبية الضيقة (العائلات والأسر)، والتحالفات المختارة بعناية من أطياف المجتمع... حتى تضمن الولاء للنخبة الحاكمة. فالسلطة كانت أشبه بالهيئة العامة لجمعية سياسية تتوزع المواقع والأدوار لتحصين وظيفة النخبة المختارة وحماية مراكز القرار. لذلك كانت السّلطات العربية بعيدة عن مفهوم الدولة الحديثة ودورها التاريخي في إعادة صوغ هوية الجماعات الأهلية والتكفل بدمجها دستورياً في إطار وعاء سياسي يرتب آليات الجمع أو الطرد، ويهيكل التوازن المجتمعي وفق رؤية عصرية جامعة تمتلك ذلك المشروع الوحدوي (الأمّة) الذي لا يميز بين الأفراد.
سياسة القبض والبسط، التي مارستها معظم السلطات، كانت أقرب إلى مفهوم «القبيلة» الائتلافية في معناها التعاضدي (التحالف الحزبي) أو التضامني (التقارب الأسري) الذي يؤسس فكرة السلطة على قاعدة «الصفوة» المختارة من شرائح (عينات اجتماعية) طموحة تبحث عن المنصب وتتعايش مع انقسامات متوارثة. وساهم تعايش السلطة السّلبي مع الجماعات الأهلية (الانقسامات العمودية) سياسياً في تأخير نمو الدولة الدستورية وعطل إمكانات الدمج التاريخي للأمة، وأعطى فرصة لظهور «عصبيات» معاصرة (أحزاب عقائدية) تتخذ من الايديولوجيا أقنعة تعطي فرصة لتدخل «الصفوة» في منظومة علاقاتها الخاصة.
لعبت الصيغة السياسية المنغلقة للسلطات العربية دورها في إنعاش العصبيات العمودية، لكونها أعطت تلك المساحة الزمنية لإعادة إنتاج علاقات أهلية أخذت تتجمع في منظومات متخالفة في الولاءات، لكنها متوافقة على التعايش السّلبي وأحياناً العداء للسلطة بوصفها قوةً قابضةً على المجتمع أو خارقةً للعادات وغير شرعية ولا تمتلك مشروعية أو أفضلية تاريخية للحكم. وضمن هذا الفضاء العام (مظلّة السّلطة السّياسية) يمكن فهم لماذا تخرج «القبيلة» من عقر دارها لتبدأ بلعب دور القوة المدافعة عن حقوق أفرادها (وحدة عضوية) كما حصل في اليمن وليبيا. كذلك يمكن فهم لماذا يظهر الدين (الإسلام في مصر وتونس) بوصفه الوعاء الحاضن (قوة توحيد وصهر) للتعارضات ما يعطيه موقع الأولوية في تطويع الاختلافات ودمجها في سياق أيديولوجيا تحاكي وجدان الناس (المثقّف العضوي) وليست غريبة عن وعيهم المتوارث أو الممارس يومياً. فالدين، كما ذكر ابن خلدون وهيغل ودو توكفيل وغرامشي (كلٌّ على طريقته)، هو الهيكل العيني للجماعات الأهلية في لحظة غياب الدولة أو ضعفها أو استبدادها. وهذا الأمر الذي تمظهر في المنطقة العربية بعد انهيار أحجار الدومينو يمكن التعامل معه بوصفه خطوة طبيعية وليست خارج المألوف، لأنّ القوى الإسلاميّة هي الطرف الأقوى في علاقات التعايش السّلبي بين سلطة قابضة على مجتمع... ومجتمع ارتدّ إلى داخله بحثًاً عن هويّة مفقودة.
«المؤامرة» الإسلامية على «الربيع» العربي مسألة متوهّمة، وهي تحتاج إلى مراجعة تبدأ في التعرّف على شبكة الواقع الاجتماعي وتنتهي في إعادة تصحيح القراءة «الحداثية» لقنوات التغيير وآلياته.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3969 - السبت 20 يوليو 2013م الموافق 11 رمضان 1434هـ
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3969 - السبت 20 يوليو 2013م الموافق 11 رمضان 1434هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق