المفصولون من أعمالهم ومعونة الشتاء
في كلِّ عام تساهم أسرة الطالب (...) في معونة الشتاء بالمدرسة. كان أبوه سخِياً في عطائه السنوي. في هذا العام، تسلَّم الطالب الورقة، لكنه أرجعها في اليوم التالي إلى المدرسة دون نقود مُرفقة، وممهورٌ عليها هذه العبارة: «نعتذر عن المساهمة هذا العام؛ بسبب الأوضاع المعيشية القاسية، نتيجة فصل ربّ الأسرة عن العمل، متمنين لكم كلَّ التوفيق والنجاح»، نقطة.
هذه الحادثة، أشبه بمدخلٍ يُفضي بك إلى مغارة مليئة بأشكال لا تنتهي من الأرزاق المقطوعة. وعندما يُبحَث عن الأسباب، فإنها لا تزيد عن (تمتمة لسان). فدنيا هؤلاء ليست أربعة أشياء: فليست هي المال، ولا الكلام، ولا المنام، ولا الطعام؛ فلا المال يُطغي، ولا الكلام يُلهي، ولا المنام يُنسي، ولا الطعام يُسقي. في تحريف منهم لما كان يقول الفقيه المسلم معروف الكرخي، لكن تلك الدنيا لا يبدو أن أحدًا سيتحملها غير هؤلاء المساكين في كلّ الأحوال.
منذ أن بدأت مأساة هؤلاء المفصولين قبل شهور، لم يفكر أبطال الفصل في أعياد هؤلاء (التي هي لله) كيف يقضونها وعيالهم. لم يفكروا أيضًا في مشرب هؤلاء إن شربوا الطَّرْق، ولا في مأكلهم إن أكلوا القِدّ، ولا في لبسهم إن لبسوا الخشن، ولا في ديونهم الثقيلة إن هي هَمَّتهم في الليل، وذلَّتهم في النهار، ولا في فراشهم إن جلسوا على حسك السعدان. إنه قمَّة الظلم والحَيْف.
أكثر ما يؤلم قلوب هؤلاء المفصولين (ونحن معهم أيضًا)، أن البُعدَاء، الذين لا يمتون لأنسابهم بصلة، ولا لمعتقداتهم، ولا لهمومهم، ولا لتعايشهم، قد حملوا همَّهم أكثر من آخرين، هم أكثر قربًا في الوطن والدِّين. هذه إشكالية إنسانية، تمس نواة المشاعر، ومركز الضمير. كيف يستقيم هذا الفعل، مع الشيئين معًا (المشاعر والضمير) إلاَّ إذا خلا الصدر من القلب، والرأس من الدماغ، والثقافة من القيم الإنسانية، والإحساس بالحضارة، والرُّقي في التعامل.
اليوم يتمُّ الحديث عن إرجاع المفصولين بمقاسات وشروط، لكن الحقيقة هي ليست في إرجاعهم بمثل ما أخرِجوا من أعمالهم بلا مقاسات ولا شروط، وإنما النظر والمحاسبة فيما جرى. فليس التعويض المادي عن شهور التسريح، بقادر على رتق هذا الفتق في النفس أو الجَيْب معًا، وإنما بتثمين كلّ ساعة قضاها المسرَّحون، وهم حيارى، في أمر معاشهم اليومي.
كلُّ صرخة صَرَخَها طفل لأبٍ مُسرَّح في إحدى ساعات الليل المظلم، من وجع يتلوَّى منه، وأبوه عاجزٌ عن شراء دواء له، فإن حسابها لا يُضاهَى أبدًا عند الله، مهما قيل ومهما كتِب. وكلّ نقصان في أكلٍ ومشربٍ وملبسٍ في تلك الساعات الكالحة، في ظلّ وجود مَنْ يتنعمون بها كفاية، هو ذنب لا يغتفر. أليس كل ما هو فظيع يحتاج لحبنا، أم ان راينر ماريا ريلكه كان مُخطئًا عندما قال ذلك؟
كثيرون من أولئك المفصولين، كانوا لا يُعولون آحدًا فقط، بل إن بعضهم كان يُعول أسَرًا مُركَّبة بكاملها. بعضهم، كان يُعول (إلى جانب أسرته)، أختاً له قد ترمَّلت، وتيتم أولادها. وبعضهم كان يُعول (إلى جانب أسرته) أمه العجوز، التي لا يمكنها العيش إلا بقائمة من الأدوية غالية الثمن. وبعضهم كان يعول (إلى جانب أسرته) أناسًا مرضى، لا تستمر حياتهم إلا بزيارة العيادات المتخصصة مرات ومرات.
كلُّ التغني بالتراث، وبتعاليم دين الله وحديث رسوله (ص) بات أمرًا مفضوحًا. فإن ردَّد بعضهم حديث الرسول (ص) ما آمن بي من نام شبعاناً وجاره جائع، في مجلس عام، فقولوا له صَهْ! فأين أنت مما تقول أو تردِّد والمفصولون أمامك زَرَافات ووحدانا. وإن تجرأ أحدهم وقال ما قاله المبعوث رحمة للعالمين، من نام وجاره جائع فليس بمسلم، فقولوا له أغرُب عن وجوهنا، فليس لنا قِبَلٌ بك. فلا القول مطابق لفعلك، ولا شعارك مع شعورك. إنه النفاق الواضح.
كيف بهؤلاء، إن سمعوا من التراث الإسلامي ما يقول: «لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسمه، وألا نمنعكم الفيء ما دمتم معنا، وألا نبدأكم بقتال». قيل ذلك الكلام والناس في حروراء قد تجمَّعت، والخيول قد أسرِجَت، والرماح قد ثقِّفَت، أم ان الأمور بالنسبة لهؤلاء لا تعدو كونها هرجٌ وهرج، يُستدعى الدِّين متى ما أريد له، ويُحجَب متى ما أريد له؟!
عندما أطلَّ جلالة الملك في العشر الأواخر من شهر رمضان، وقال جهارًا «لا يرضينا أن يتعرض أي من أفراد شعبنا بما يمس أمنه وحريته ومصدر رزقه وتحصيله العلمي» بدا أن هناك من يرضيه أن يتعرَّض الناس في أرزاقهم بعد أن استبشروا المكلومين خيرًا، فأبقى على المشكلة، مستغلاً ظروف البلد، يحسب بذلك أنه يزيد في العقاب، ويُوغل في طلب الاستجداء، لكنه نسي أن الصبر على عطش الضر، ولا الشرب من شِرْعة منٍّ، مثلما قال ابن قيم الجوزية.
كلّ الدراسات الاجتماعية، وفقه الثورات، قد توصَّلت، إلى أن مزاحمة الأرزاق، أو التضييق عليها، فضلاً عن قطعها، هي أسباب أصيلة في تولد الأزمات، واستدرارها، وفي إحداث الهزَّات السياسية في البُلدان، لذا فإن معالجة هذا الملف هو من أجل ألا تتلقى البحرين أزمات جديدة، قد تنفجر في الأحضان عند أيّ وقت. نعم هذا هو الأسلم، بدلاً من مراقبة الألم من وراء الزجاج لأنه شيء مضحك، فهو كالأطرش الذي يسمع موسيقى، كما قال الماغوط
محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3341 - الإثنين 31 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي الحجة 1432هـ
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3341 - الإثنين 31 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي الحجة 1432هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق