إشكالية الجيش والسلطة في مصر: دروس من آسيا
ربما يكون تدخل الجيش المصري لعزل الرئيس محمد مرسي قد أسعد المعارضين الليبراليين لجماعة الإخوان المسلمين التي دعمت انتخابه في العام الماضي، غير أن ذلك قد بدد الآمال بأن الإطاحة التي قادتها الطبقة الوسطى بنظام الرئيس حسني مبارك في 2011 يمكن أن تنتج نظاما ديمقراطيا مستقرا.
تصور الأحداث الأخيرة في مصر التحديات التي يمكن أن يواجهها أي بلد عند التحول إلى الديمقراطية: فالزعماء المستبدون يمكن أن يأتوا ويذهبوا، لكن قوات الأمن التي تسندهم نادرا ما تنصاع بسهولة لإرادة الشعب. فحتى القادة العسكريين الذين يجعلون من الممكن إزاحة الزعماء غير الشعبيين، فإنهم يكونون مستعدين لاستعادة سلطتهم عندما تفشل الحكومات الانتقالية المنتخبة شعبيا، كما يحدث في الغالب.
ثمة دروس يمكن أن تتعلمها مصر من التجربة الآسيوية، ولا سيما من اندونيسيا، حيث تم إبعاد الجيش عن السلطة مع الإطاحة بنظام سوهارتو في 1998. ومنذ ذلك الوقت، تم احتواء الجيش بشكل فعال من خلال إطار قانوني ارتكز على السيادة المدنية.
إحدى نقاط الضعف في التنمية السياسية في كل من آسيا والشرق الأوسط يتمثل في العجز عن وضع أساس مؤسسي قوي للإصلاح الديمقراطي. وجزء من المشكلة هو الأطر الأمنية والقانونية القديمة المتوارثة من عهد الاستعمار التي صممت لحماية أولئك الذين هم في السلطة. بالإضافة إلى ذلك فإن السمة الشخصية تميل إلى التفوق على الأيديولوجية ويعيق الفراغ الناتج نمو الأحزاب السياسية التي تعزز برامج اجتماعية واقتصادية معقولة. فالأولوية الأولى بعد أي انتفاضة شعبية تكمن في إجراء انتخابات، لكن الشعب ينتهي به المآل إلى التصويت وفقا للفواصل العاطفية والطائفية الغالبة في ذلك حيث يعطي الساسة قليلا من التفكير لما يجب عليهم عمله بشكل مسؤول وجماعي بحريتهم التي حققوها مؤخرا وليس السعي إلى السلطة وتعزيز مصالحهم الخاصة.
مع الفوضى وخيبة الأمل التي تعقب ذلك, يصبح الجيش طوق النجاة. فهو عادة ما يكون المؤسسة الأقوى، برؤية أوضح لم تحتاجه البلد. يدعم قادة الجيش في البداية بقوة قوى التغيير الديمقراطي ويؤكدون أنهم ليس لديهم رغبة في السلطة. لكن عندما يكون العنف الطائفي هو المنتج الثانوي للنظرة الأولى للحرية، كما يكون في الغالب، فإن حس الجيش بالوصاية على وحدة وسلامة الدولة، بما في ذلك الحاجة إلى حراسة مصالحه الاقتصادية، يتجاوز أي احترام للسيادة المدنية.
إذًا لماذا خالفت الاتجاه اندونيسيا؟ على غرار مصر، فإن تحول اندونيسيا شابته الفوضى. فعقب سقوط سوهارتو، عصف العنف بالبلد، حيث قتل أكثر من 5 آلاف شخص في حرب شرسة بين المسيحيين والمسلمين في شرق اندونيسيا. وشعر كثيرون أن عناصر ساخطة من الجيش كانت تثير النزاعات الدينية لتبرير العودة للسلطة في ظل الفوضى التي أعقبت ذلك.
وربما يكون السبب الرئيسي الذي أبقى الجيش على الحياد هو أنه أصبح المصدر الرئيسي للقيادة السياسية المدنية. فقد أظهرت العناصر القيادية في الجيش التزامها بالعملية الديمقراطية من البداية، وليس من خلال تحديها عندما ساءت الأمور، بل من خلال الترشح للانتخابات. فالرئيس سوسيلو بامبانج يودهويونو، الذي تم انتخابه لفترتين وسوف يتنحى في 2014، لم يكن جنرالا بأربع نجوم فقط لكنه كان يدير مكتب الجيش للشؤون الاجتماعية والسياسية الذي مهمته الإشراف على دور الجيش في السياسة.
وبدلا من إهدار تلاحم الجيش محل الفخر في تأسيس الدولة، احتضن الجيش الاندونيسي الحرية والسيادة الشعبية. وقد ساعد ذلك بشكل كبير على أن تستمر اندونيسيا في أن يحكمها نفس دستور عام 1945. والأهم أن الجيش لا يزال قادرا على تحقيق مصالح اقتصادية خاصة لدعم ميزانيته، ومن ثم تمويل الحملات السياسية والانتخابية والتأثير عليها.
لكل عملية تحول طابعها وسمتها الخاصة. فيمكن مقارنة مصر الآن بشكل أكثر سهولة بالفلبين في الثمانينيات والتسعينيات، عندما ساعد الجيش في الإطاحة بنظام حكم ماركوس الاستبدادي عن طريق دعم الانتفاضة الشعبية، غير أنه استمر منذ ذلك الوقت في التدخل في السياسة عندما شعر الجنرالات أن مصالحهم تأثرت. وكان في العقد الأخير فقط عندما تم في النهاية استئناث الجيش.
في ميانمار وضع الجيش ضمانات قوية لضمان قبضته على السلطة، وذلك بالهيمنة على الحزب السياسي الحاكم والاستحواذ على مجلس وزراء الرئيس الجنرال ثين سين. ومع ذلك فإن ضباط الجيش الفعليين هم ضمن الإصلاحيين الأكثر نشاطا وحيوية: فقد قاموا بتحرير وسائل الإعلام وسعوا إلى تحقيق السلام مع الجماعات العرقية المسلحة. بيد أن هناك مخاوف مستمرة بأن العنف بين الأغلبية البوذية والأقلية المسلمة يتم استغلالها من قبل القوى المحافظة العازمة على تقويض الانتقال إلى الديمقراطية.
وتقدم تايلاند درسا مفيدا: فحتى بعد أكثر من عقدين من الحكم الديمقراطي يمكن للجيش أن يتدخل عندما يشعر أن مصالحه باتت مهددة. وقد فاجأ الجميع الانقلاب العسكري في عام 2006. ومع ذلك وكما هو الحال تماما في مصر الآن، كان هناك كثير من الليبراليين الذين تقبلوا حكم المجلس العسكري لأنهم شعروا أن الجيش قد أطاح بحكومة فاسدة. غير أن ميراث هذا التدخل يتمثل في انقسام مجتمعي عميق أفرز عنفا وأثبت أنه من المستحيل المصالحة.
في الختام, فإن الطبقات الوسطى التي تكون في طليعة هذه التحولات هي التي تلام بشكل أساسي. فمن جانب فإنها تتطلع إلى الحرية التي تعد بها الديمقراطية؛ وهي لديها الموارد والتعليم لتحريك احتجاجات جماهيرية حاشدة والتعبير عن المطالب. ومن جانب آخر، يكون هناك تناقض أو ازدواجية.
وفي باكستان وقفت النخب موقف المتفرج في الوقت الذي تدخل فيه الجيش لحماية ثروته عن طريق استعادة الاستقرار. بيد أنك اليوم إذا سألت الطبقة الوسطى الباكستانية فيما إذا كانت تستحق ذلك، فإنهم يجيبون بالندم، وهذا هو السبب في أن أحد حكامهم السابقين الجنرال برويز مشرف قيد الإقامة الجبرية وسوف يمثل أمام المحكمة بتهمة الخيانة العظمى. وكما دون أحد الباكستانيين لأصدقائه المصريين: إذا اعتقدتم أن الجيش هو الحل فإن ذلك خطأ كبيرا.
* مدير منطقة آسيا في مركز الحوار الإنساني. خدمة "إنترناشيونال هيرالد تريبيون ـ نيويورك تايمز" خاص بـ"الوطن"
ميخائيل فاتيكيوتيس
ربما يكون تدخل الجيش المصري لعزل الرئيس محمد مرسي قد أسعد المعارضين الليبراليين لجماعة الإخوان المسلمين التي دعمت انتخابه في العام الماضي، غير أن ذلك قد بدد الآمال بأن الإطاحة التي قادتها الطبقة الوسطى بنظام الرئيس حسني مبارك في 2011 يمكن أن تنتج نظاما ديمقراطيا مستقرا.
تصور الأحداث الأخيرة في مصر التحديات التي يمكن أن يواجهها أي بلد عند التحول إلى الديمقراطية: فالزعماء المستبدون يمكن أن يأتوا ويذهبوا، لكن قوات الأمن التي تسندهم نادرا ما تنصاع بسهولة لإرادة الشعب. فحتى القادة العسكريين الذين يجعلون من الممكن إزاحة الزعماء غير الشعبيين، فإنهم يكونون مستعدين لاستعادة سلطتهم عندما تفشل الحكومات الانتقالية المنتخبة شعبيا، كما يحدث في الغالب.
ثمة دروس يمكن أن تتعلمها مصر من التجربة الآسيوية، ولا سيما من اندونيسيا، حيث تم إبعاد الجيش عن السلطة مع الإطاحة بنظام سوهارتو في 1998. ومنذ ذلك الوقت، تم احتواء الجيش بشكل فعال من خلال إطار قانوني ارتكز على السيادة المدنية.
إحدى نقاط الضعف في التنمية السياسية في كل من آسيا والشرق الأوسط يتمثل في العجز عن وضع أساس مؤسسي قوي للإصلاح الديمقراطي. وجزء من المشكلة هو الأطر الأمنية والقانونية القديمة المتوارثة من عهد الاستعمار التي صممت لحماية أولئك الذين هم في السلطة. بالإضافة إلى ذلك فإن السمة الشخصية تميل إلى التفوق على الأيديولوجية ويعيق الفراغ الناتج نمو الأحزاب السياسية التي تعزز برامج اجتماعية واقتصادية معقولة. فالأولوية الأولى بعد أي انتفاضة شعبية تكمن في إجراء انتخابات، لكن الشعب ينتهي به المآل إلى التصويت وفقا للفواصل العاطفية والطائفية الغالبة في ذلك حيث يعطي الساسة قليلا من التفكير لما يجب عليهم عمله بشكل مسؤول وجماعي بحريتهم التي حققوها مؤخرا وليس السعي إلى السلطة وتعزيز مصالحهم الخاصة.
مع الفوضى وخيبة الأمل التي تعقب ذلك, يصبح الجيش طوق النجاة. فهو عادة ما يكون المؤسسة الأقوى، برؤية أوضح لم تحتاجه البلد. يدعم قادة الجيش في البداية بقوة قوى التغيير الديمقراطي ويؤكدون أنهم ليس لديهم رغبة في السلطة. لكن عندما يكون العنف الطائفي هو المنتج الثانوي للنظرة الأولى للحرية، كما يكون في الغالب، فإن حس الجيش بالوصاية على وحدة وسلامة الدولة، بما في ذلك الحاجة إلى حراسة مصالحه الاقتصادية، يتجاوز أي احترام للسيادة المدنية.
إذًا لماذا خالفت الاتجاه اندونيسيا؟ على غرار مصر، فإن تحول اندونيسيا شابته الفوضى. فعقب سقوط سوهارتو، عصف العنف بالبلد، حيث قتل أكثر من 5 آلاف شخص في حرب شرسة بين المسيحيين والمسلمين في شرق اندونيسيا. وشعر كثيرون أن عناصر ساخطة من الجيش كانت تثير النزاعات الدينية لتبرير العودة للسلطة في ظل الفوضى التي أعقبت ذلك.
وربما يكون السبب الرئيسي الذي أبقى الجيش على الحياد هو أنه أصبح المصدر الرئيسي للقيادة السياسية المدنية. فقد أظهرت العناصر القيادية في الجيش التزامها بالعملية الديمقراطية من البداية، وليس من خلال تحديها عندما ساءت الأمور، بل من خلال الترشح للانتخابات. فالرئيس سوسيلو بامبانج يودهويونو، الذي تم انتخابه لفترتين وسوف يتنحى في 2014، لم يكن جنرالا بأربع نجوم فقط لكنه كان يدير مكتب الجيش للشؤون الاجتماعية والسياسية الذي مهمته الإشراف على دور الجيش في السياسة.
وبدلا من إهدار تلاحم الجيش محل الفخر في تأسيس الدولة، احتضن الجيش الاندونيسي الحرية والسيادة الشعبية. وقد ساعد ذلك بشكل كبير على أن تستمر اندونيسيا في أن يحكمها نفس دستور عام 1945. والأهم أن الجيش لا يزال قادرا على تحقيق مصالح اقتصادية خاصة لدعم ميزانيته، ومن ثم تمويل الحملات السياسية والانتخابية والتأثير عليها.
لكل عملية تحول طابعها وسمتها الخاصة. فيمكن مقارنة مصر الآن بشكل أكثر سهولة بالفلبين في الثمانينيات والتسعينيات، عندما ساعد الجيش في الإطاحة بنظام حكم ماركوس الاستبدادي عن طريق دعم الانتفاضة الشعبية، غير أنه استمر منذ ذلك الوقت في التدخل في السياسة عندما شعر الجنرالات أن مصالحهم تأثرت. وكان في العقد الأخير فقط عندما تم في النهاية استئناث الجيش.
في ميانمار وضع الجيش ضمانات قوية لضمان قبضته على السلطة، وذلك بالهيمنة على الحزب السياسي الحاكم والاستحواذ على مجلس وزراء الرئيس الجنرال ثين سين. ومع ذلك فإن ضباط الجيش الفعليين هم ضمن الإصلاحيين الأكثر نشاطا وحيوية: فقد قاموا بتحرير وسائل الإعلام وسعوا إلى تحقيق السلام مع الجماعات العرقية المسلحة. بيد أن هناك مخاوف مستمرة بأن العنف بين الأغلبية البوذية والأقلية المسلمة يتم استغلالها من قبل القوى المحافظة العازمة على تقويض الانتقال إلى الديمقراطية.
وتقدم تايلاند درسا مفيدا: فحتى بعد أكثر من عقدين من الحكم الديمقراطي يمكن للجيش أن يتدخل عندما يشعر أن مصالحه باتت مهددة. وقد فاجأ الجميع الانقلاب العسكري في عام 2006. ومع ذلك وكما هو الحال تماما في مصر الآن، كان هناك كثير من الليبراليين الذين تقبلوا حكم المجلس العسكري لأنهم شعروا أن الجيش قد أطاح بحكومة فاسدة. غير أن ميراث هذا التدخل يتمثل في انقسام مجتمعي عميق أفرز عنفا وأثبت أنه من المستحيل المصالحة.
في الختام, فإن الطبقات الوسطى التي تكون في طليعة هذه التحولات هي التي تلام بشكل أساسي. فمن جانب فإنها تتطلع إلى الحرية التي تعد بها الديمقراطية؛ وهي لديها الموارد والتعليم لتحريك احتجاجات جماهيرية حاشدة والتعبير عن المطالب. ومن جانب آخر، يكون هناك تناقض أو ازدواجية.
وفي باكستان وقفت النخب موقف المتفرج في الوقت الذي تدخل فيه الجيش لحماية ثروته عن طريق استعادة الاستقرار. بيد أنك اليوم إذا سألت الطبقة الوسطى الباكستانية فيما إذا كانت تستحق ذلك، فإنهم يجيبون بالندم، وهذا هو السبب في أن أحد حكامهم السابقين الجنرال برويز مشرف قيد الإقامة الجبرية وسوف يمثل أمام المحكمة بتهمة الخيانة العظمى. وكما دون أحد الباكستانيين لأصدقائه المصريين: إذا اعتقدتم أن الجيش هو الحل فإن ذلك خطأ كبيرا.
* مدير منطقة آسيا في مركز الحوار الإنساني. خدمة "إنترناشيونال هيرالد تريبيون ـ نيويورك تايمز" خاص بـ"الوطن"
ميخائيل فاتيكيوتيس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق